الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا تبارك وتعالى ويرضى. الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد عبدك ورسولك، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
فكرة المدخل
لا شك أن فكرة المداخل إنما تكون للأمور المهمة. إذا عملت شيئًا يمهد للدخول إلى كتاب ما أو إلى علم ما،
فهو لأهمية هذا العلم بحيث إنه يحتاج إلى مثل هذا التمهيد.
وأحيانًا يكون المدخل لصعوبة الأمر الذي تريد الدخول إليه.
“المنهاج من ميراث النبوة” الحمد لله ليس صعبًا، لكنه مهم، وبالتالي يُعمل له هذا المدخل.
النقطة الأولى: أهمية الارتباط بمرجعية الوحي
أهمية الارتباط بمرجعية الوحي، أي بالكتاب والسنة، أهمية الربط بين الوحي وبين واقع المسلم. أهمية الربط بين الكتاب والسنة وبين الواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم.
حين نقول الواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم فإننا نقصد به صورتين من صور الواقع أو قسمين من أقسام الواقع:
-
الواقع الخاص: وهو الذي يتعلق بحياتك أنت، بسلوكك أنت، بالتحديات التي تواجهها في حياتك، الفتن المحيطة بك، مدى التزامك بالفرائض، مدى إيمانك أنت، مدى صلاح قلبك وفساده. هذا الواقع الخاص يجب أن يكون أهم نور يرشد الإنسان فيه هو الوحي، أي ميراث النبوة، كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
الواقع العام: المقصود به واقع المسلمين، واقع الأمة، التدافع بين الحق والباطل، الحروب التي تقوم بين المسلمين وأعدائهم، المشكلات الكبرى التي تعصف بالأمة في أي زمن. يجب أن يكون هناك ارتباط بين مرجعية الوحي وبين هذا الواقع العام.
وبطبيعة الحال، فإن الربط بين الوحي وبين الواقع العام ليس مهمة سهلة. بمعنى أن الواقع الخاص، المفترض أن كل إنسان يستطيع أن يربط بين الكتاب والسنة وبين واقعه الخاص. لكن الذين يستطيعون الربط بين الكتاب والسنة وبين الواقع العام، ويحسنون تنزيل الآيات والأحاديث لفهم هذا الواقع العام، هم من يمتلكون بصيرة معينة وعلمًا معينًا وأدوات لفهم النص ومعرفة كبيرة بالواقع كذلك.
المعنى المركزي في “المنهاج من ميراث النبوة” هو تحقيق حالة الارتباط بين الكتاب والسنة من جهة، وبين الواقع الخاص والواقع العام الذي يعيشه الإنسان المؤمن في حياته الخاصة، وينظر من خلالها إلى حياة الأمة العامة.
هنا يجب أن أعلق على شيء مهم جدًا حتى نفهم القضية بصورة صحيحة: هذا الربط بين الوحي، بين الكتاب والسنة، وبين الواقع هو الصورة التي كان عليها الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بدأت تتغير الأمور بعد ذلك شيئًا فشيئًا.
لو قلنا: ما هو منهاج النبوة في تلقي الوحي، وفي تفعيله، وفي التفاعل مع الكتاب والسنة؟ ما هي معالم هذا المنهج النبوي؟ الجواب بلا شك أن من أهم مفردات هذا المنهج هو الربط الواضح بين الكتاب والسنة وبين الأحداث والوقائع والمجريات التي تحدث في واقع الصحابة وواقع الأمة في تلك المرحلة، مرحلة النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل على ذلك:
-
أساس قضية نزول القرآن مفرقًا. الكفار قالوا: “لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة”، فقال الله تعالى: “كذلك لنثبت به فؤادك” [الفرقان: 32]. هذا الآن تثبيت للفؤاد، للواقع الخاص. والخاص للنبي صلى الله عليه وسلم هو أصلًا عام، لأنه هو القدوة العظمى، والموجه لكل الأمة. فالقرآن كان ينزل مفرقًا، وهذا التفريق ذكر العلماء فيه وصفًا وهو أنه مفرق على الأحداث.
-
هناك أدلة واضحة في القرآن أنه نزل مرتبطًا بالأحداث. لدينا كثير من الآيات القرآنية مرتبطة بأحداث معينة حدثت في ذلك الزمن، وخاصة الآيات المرتبطة بالغزوات والمعارك.
-
سورة الأنفال مرتبطة بغزوة بدر، واسمها سورة الأنفال (أي الغنائم)، وهي الغنائم التي كانت في غزوة بدر تحديدًا، ونزلت بسببها، وإن كان حكمها عامًا.
-
تفاصيل الآيات فيها تفاصيل المعركة وبعض الأمور المرتبطة بالأحداث: “كما أخرجك ربك من بيتك بالحق…” [الأنفال: 5]، “إذ تستغيثون ربكم…” [الأنفال: 9]، “إذ يوحي ربك إلى الملائكة…” [الأنفال: 12]، “إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح…” [الأنفال: 19]، “واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض…” [الأنفال: 26].
-
سورة آل عمران فيها آيات كثيرة مرتبطة بأحداث غزوة أحد: “ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها…” [آل عمران: 165]، “إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان…” [آل عمران: 155].
-
سورة الأحزاب نزلت مفصَّلة على أحداث ووقائع معركة الخندق.
-
سورة التوبة تتناول أكثر من حدث، لكن أهم حدث تناولته هو غزوة تبوك.
الارتباط بالواقع ليس مرة ولا مرتين، ولا في سورة ولا في سورتين، بل هو ارتباط بالواقع بشكل مستمر. الصحابي لا يحتاج أن تقول له إن القرآن نزل ليكون منيرًا للواقع، يجب أن يكون مرتبطًا بواقعك الخاص. هو أصلًا تلقى القرآن بهذه الطريقة، لا يعرف القرآن إلا بهذه الطريقة.
بعد ذلك، لما تغير الزمن، صار الواحد يدرس القرآن كمادة نظرية منفصلة، وأصبح هناك فجوة بين الإنسان المسلم وبين الاهتداء بالقرآن ليكون ملامسًا لواقعه.
خلاصة النقطة الأولى:
الإنسان المسلم يحتاج إلى الارتباط والربط بين الكتاب والسنة من جهة، وبين واقعه الخاص وواقعه العام من جهة أخرى. و”المنهاج من ميراث النبوة” صُنِّف ليحقق خطوة أو جزءًا أو ركنًا من أركان هذا الربط بين الوحي وبين الواقع.
النقطة الثانية: مكونات المتن وطريقته
مما يتكون هذا المتن؟ وما هي طريقته؟ هذا المتن يتكون من 32 بابًا، وكل باب منها يحتوي على مجموعة من الآيات ومجموعة من الأحاديث. فالمنهاج عبارة عن متن، وليس رواية ولا قصة ولا كتابًا للشرح العلمي التفصيلي، وإنما هو متن فيه آيات وأحاديث.
-
الآيات: 126 آية.
-
الأحاديث: 197 حديثًا.
فآيات القرآن أكثر من ذلك، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، إذن نحن نتحدث عن حالة انتقاء.
فكرة الانتقاء:
هذا الكتاب فيه انتقاء لمجموعة من الآيات ومجموعة من الأحاديث. وهذا الانتقاء، عموما، فكرة الانتقاء من الكتاب والسنة وجمعه في كتاب معين، هذا منهج علمي سار عليه علماء المسلمين على مر التاريخ.
-
مثال: الإمام البخاري جمع من الآيات ومن الأحاديث ما يحقق شرطًا معينًا. ففي الأحاديث اشترط صحة معينة، وفي الآيات ما يتناسب مع الأحاديث التي انتقاها.
-
كتب السنة عمومًا تنتقي بحسب قصد المصنف أو قصد الذي انتقى.
-
في الأزمنة المتأخرة، تنوعت صورة الانتقاء بشكل كبير جدًا.
-
رياض الصالحين: من أشهر الكتب المنتقاة، للإمام النووي رحمه الله، جمع آيات وأحاديث ضمن أبواب معينة.
-
كتب أخرى: مثل “الترغيب والترهيب” للمنذري، الذي انتقى أحاديث الترغيب والترهيب وجمعها في كتاب.
معيار الانتقاء في المنهاج:
ما معيارك في الانتقاء؟ ولماذا اختيرت هذه الأبواب؟ وبناء عليها اختير ما تحتها من حيث العرض والترتيب من الآيات والأحاديث؟
هنا مهم أن نفهم أن هذا الانتقاء حصل لتحقيق حالة من الاستقامة الخاصة والعامة. وهذا يذكرنا بما ذكرته في النقطة الأولى: الربط بين القرآن والسنة وبين الواقع الخاص والعام للإنسان المسلم.
هذا المتن جمع باستحضار أن الذي سيدرسه ويفهمه ويحفظه وينطلق من خلاله أو يعمل به، يتطلب الاستقامة في حياته الخاصة، أي في التزام الفرائض وفي تحقيق التقوى وفي اجتناب المعاصي، ويتطلب الاستقامة فيما يتعلق بواقع الأمة العام.
خلاصة النقطة الثانية:
-
انتقاء تم لمجموعة من الأبواب الدينية التي تحقق حالة الصلاح الخاص والإصلاح العام.
-
روعي في اختيارها أن تكون من محكمات الدين.
-
تم وضع الآيات القرآنية ثم الأحاديث النبوية تحت كل باب.
-
الأحاديث منتقاة مع مراعاة مبدأ الصحة في الجملة.
النقطة الثالثة: سياق الكتاب الذي جاء فيه وصُنِّف فيه
ما هو السياق الذي لأجله جاء تصنيف هذا الكتاب؟ السياق الزمني، والسياق الشخصي، والسياق المنهجي العام الذي جاء فيه هذا الكتاب.
هل هذا الكتاب أتى منفردًا عن سياق معين؟ لا، بل أتى متصلًا بسياق معين. هذا السياق عبارة عن منهجية معينة أو مشروع منهجي معين في الإصلاح وفي التأصيل لفكرة الإصلاح.
السؤال المركزي:
ما المنهج الإصلاحي المستخرج من الكتاب والسنة والذي يتفق مع حال الأمة اليوم؟
هذا السؤال يتضمن نقطتين:
-
وجود منهج إصلاحي في الكتاب والسنة.
-
الاجتهاد في تنزيل هذا المنهج على كل واقع بحسبه.
ليس المنهج الإصلاحي واحدًا في كل الأزمنة والأمكنة من حيث الأولويات الإصلاحية، فهي تتغير بحسب الزمان والمكان.
مثال:
-
أولويات الإصلاح عند لوط عليه السلام تختلف عن أولويات الإصلاح عند شعيب عليه السلام.
-
مع اشتراك الأنبياء في الأولوية المتفق عليها الكبرى وهي العبودية لله وحده.
ارتباط الكتاب بمشروع أوسع:
هذا المتن أتى ضمن مشروع تأصيلي، وهذا المنهج وهذا المشروع شرح بشكل مفصل في كتاب آخر ليس “المنهاج” وإنما كتاب “بوصلة المصلح”.
في “بوصلة المصلح” تم الخلوص بعد بحث شرعي وبحث واقعي إلى أن واجب الوقت هو صناعة المصلحين لسد الثغور العامة في الأمة، وأن التركيز اليوم على صناعة المصلحين.
ما علاقة كل هذا بـ”المنهاج من ميراث النبوة”؟
كان من مفردات فكرة صناعة المصلحين أن تكون هناك بعض القواعد الكبرى المشتركة بين المصلحين، بعض المفاهيم الشرعية المحكمة المشتركة بين المصلحين، وأن هذه المفاهيم يجب أن تكون متفقًا عليها، نظرًا لكونها من محكمات الكتاب والسنة.
هذه المفاهيم الأساسية هي التي وضعت في “المنهاج من ميراث النبوة”.
خلاصة النقطة الثالثة:
-
الكتاب أتى في سياق متصل، ولم يأتِ منفصلًا.
-
هذا الاتصال عبارة عن مشروع منهجي معين ليجيب عن سؤال: ما هي منهجية الإصلاح في الكتاب والسنة؟ وما أولوياتها في واقع اليوم؟
-
“المنهاج من ميراث النبوة” هو جزء من هذه الإجابة بالصيغة العملية في طور بناء المصلح.
النقطة الرابعة: كيفية الاستفادة من هذا الكتاب
بداية، هذا الكتاب، كما يسر الله تصنيفه، فقد يسر شرحه. هناك شرح لهذا الكتاب، وهذا الشرح في الأساس هو مرئي في سلسلة من 30 حلقة تقريبًا قدمتها في شرح هذا الكتاب. وهي موجودة.
في نفس الوقت، لُخِّص هذا الشرح مكتوبًا في كتاب “القبس الوهاج”، قام أحد الإخوة الأفاضل، الأخ محمد، بتلخيص الشرح المرئي وكتبه.
وبالتالي صار من السهل اليوم أن يقرأ الإنسان المتن وأن يقرأ معالم الشرح الأساسية.
أهمية الاطلاع على الشرح:
برأيي أنه لابد من الاطلاع على الشرح، على أني أقول إن هذا الشرح ليس كافيًا، وإنما هو يعني هذا المتن قدم في الساحة ليكون هناك أكثر من وسيلة لخدمة هذه المعاني وإيصالها.
-
هذا المتن لا يزال يحتاج إلى شرح موسع، شرح علمي موسع.
-
يحتاج إلى شرح مبسط، وهذا الشرح المبسط حصل بالفعل من بعض الطلاب.
-
يمكن الاستفادة من الكتاب عبر حفظه، وقد حصل ذلك بفضل الله كثيرًا.
أهم الوسائل في الاستفادة من الكتاب:
-
القراءة والحفظ: والحفظ ليس شرطًا.
-
الشرح: وينبغي أن يكون هناك تكثير لفكرة الشرح، إما مبسط أو متوسط أو موسع.
-
الربط بين الباب والواقع: وهذا النقطة الأخيرة والمهمة جدًا. أهم استفادة من “المنهاج” هو أن يكون هناك ربط بين الباب وبين الواقع، بين الآيات التي في الباب وبين الواقع، بين الأحاديث التي في الباب وبين الواقع.
الأهم من ذلك هو أن يكون الربط حاصلًا بمجموع الأبواب، أي كلما تخرج من باب تكون ربطته بينه وبين واقعك، ثم الباب الثاني، ثم الباب الثالث، ثم الباب الرابع. بمجموع الكتاب، المفترض أن تكون خرجت بنتيجة عملية متقدمة في الربط بين مرجعية الوحي وبين الواقع.
بهذا أكون قد ذكرت الأمور التالية في هذا اللقاء:
-
أهمية الربط بين مرجعية الوحي وبين الواقع: هذا هو الحال الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الأمر بدأ يفتقد في الأمة شيئًا فشيئًا، وأننا اليوم نحتاج إلى إعادة تجديد هذا المعنى، وهو إعادة فاعلية النص القرآني والحديث النبوي في واقع الأمة اليوم.
-
بنية الكتاب: هذا الانتقاء هو منهج سار به العلماء عبر التاريخ، كل كان ينتقي بحسب الموضوع والمعايير التي يريدها، وهذه واحدة من صور الانتقاء. معيارها هو ملاحظة تحقيق حالة الصلاح الخاص والإصلاح العام.
-
سياق تأليف الكتاب: الكتاب أتى في سياق متصل ولم يأتِ منفصلًا، وهذا الاتصال هو اتصال بواقع مشروع منهجي معين ليجيب عن سؤال: ما هي منهجية الإصلاح في الكتاب والسنة؟ وما أولوياتها في واقع اليوم؟
-
كيفية الاستفادة من الكتاب: لا يكتفى بالقراءة للمتن ولا بحفظه، وإنما المهم العناية بشرحه، والأهم تنزيل هذه المعاني على الواقع، وهذا يكون بالأبواب المنفصلة وبالمجمل.
نسأل الله سبحانه وتعالى العلي العظيم الذي لا إله إلا هو أن يغفر لنا ويرحمنا، وأن يهدينا ويسددنا. ونسأله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا بركة العلم، وأن لا يحرمنا بركة السنة، وأن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يجعلنا من المتبعين لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذا الانتقاء وفي هذا الكتاب، وأن يعيننا جميعًا على الاستفادة منه بأمثل طريق. ونسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة والرحمة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الشاكرين المنيبين المتقين.
فلله الحمد أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. وصلَّى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.